سورة الروم - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الرّوم: 30/ 30- 32].
أمر الله تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه وسلم باعتباره قدوة الأمّة بأن يقيم وجهه للدين المستقيم، وهو دين الإسلام، وإقامة الوجه: هو تقويم العقيدة، وحمل الإنسان على محمل الجدّ والعزم والحزم في أعمال الدين. والتعبير بإقامة الوجه: لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفها، ويكون المراد بالآية: وجّه أيها النّبي نفسك وقلبك لعقيدة الإسلام واتّباع شرائعه، حنيفا، أي معتدلا مقوّما مائلا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة، والزم أو اتّبع فطرة الله تعالى، أي خلقة الله، أو افتطر بفطرة الله التي فطر، أي خلق وأبدع وسوى جميع الناس عليها، حيث خلقهم على ملّة التوحيد، وأن الله واحد لا شريك له، في قرارة كل إنسان، وتحوّل تحوّلا تامّا عن جميع الملل والأديان الباطلة، إلى الدين الحق والملّة القويمة، والفطرة: هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل المعدّة أو المهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربّه جلّ وعلا، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، وهذا خطاب للنّبي صلّى اللّه عليه وسلم ولأمّته، وهو يدلّ على أن كل إنسان مخلوق على التوحيد والإقرار بوجود الله ووحدانيته، ولكن تعرض له العوارض، فيزيغ عن سنن الفطرة، وذلك كما قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كمثل البهيمة، تنتح البهيمة هل ترى فيها جدعاء».
أي مثله كمثل الشّاة تولد سليمة الحواس والأعضاء، لا مقطوعة الأذن أو الأنف.
ولا ينبغي لأحد أن يبدّل أو يغيّر فطرة الله، أي الخلقة الأصلية، وهذا خبر في معنى النّهي، أو الطلب، أي لا تبدّلوا خلق الله الأصلي ودينه بالشّرك، فتغيّروا الناس عن فطرتهم التي خلقهم عليها. وذلك المأمور به من اتّباع ملّة التوحيد والتمسّك بالشريعة المطهرة والفطرة السليمة: هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف. غير أن أكثر الناس لا يعرفون ذلك حقّ المعرفة.
إنكم جميعا أيها الناس مطالبون باتّباع دين الله وتوحيده، خاشعين له، مقبلين عليه إقبالا تامّا، راجعين إليه رجوعا كاملا، وإنكم ملزمون بتقوى الله، أي العمل بأوامره واجتناب نواهيه أو معاصيه، وداوموا على إقامة الصلاة كاملة الأركان مستوفية الشروط، واحذروا الشّرك، ولا تكونوا بعد الإيمان بوحدانية الله مشركين به غيره، فلا تقصدوا في عبادتكم غير الله تعالى، بل كونوا موحّدين مخلصين لله العبادة. والمشركون: هم كل من عبد مع الله إلها آخر، من بشر أو جماد أو كوكب أو غير ذلك.
وأوصاف المشركين: هم الذين فرّقوا دينهم، أي اختلفوا فيما يعبدونه بحسب اختلاف أهوائهم، فبدّلوا فطرة التوحيد، وصاروا فرقا مختلفة، وأحزابا متباينة، كل فرقة وحزب فرحون بما عندهم، مفتونون بآرائهم، معجبون بضلالهم.
وهذه حملة شديدة على الفرق الضّالّة والمذاهب المنحرفة، تدعو أهل البصيرة والوعي إلى أن يبادروا إلى توحيد عقيدتهم والعمل بشريعة ربّهم التي أنزلها على خاتم النّبيّين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
تناقض المشركين:
من المستغرب صنع بعض الناس وتناقضهم، فتراهم يقبلون على ربّهم وقت الشّدة الخانقة والأزمة المستعصية، فلا يجدون سواه ملجأ لتفريج الكروب، حتى إذا ما رفع عنهم البلاء، وزال عنهم البأس، تنكّروا لخالقهم المنعم عليهم بدفع النقمة ورفع الشّدّة، وهذا واضح من فعل عبدة الأصنام وبعض الكافرين الذين يعبدون الله من أجل الدنيا والمنفعة، فإن أعطوا منها رضوا، وإن منعوا منها سخطوا، وعلى هؤلاء أن يدركوا أن مفتاح الرزق بيد الله تعالى، يمنح من يشاء، ويحجب النعمة عمن يشاء، بحسب ما يرى من الحكمة والمصلحة لعبادة، وهذا ما أبانته الآيات الآتية:


{وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)} [الرّوم: 30/ 33- 37].
هذا لوم وتقريع لفئتين من الناس: عبدة الأصنام المشركين بالله تعالى غيره، وبعض الجاحدين الذين يبتغون من وراء عبادة الله تحقيق المنافع ومكاسب الدنيا، فإن حصلوا على مبتغاهم اطمأنوا، وإذا حرموا بعض الخيرات، تبرموا وسخطوا.
إن الفئة الأولى: وهم المشركون الوثنيون كسائر البشر، متى مسّهم ضرّ (أي شدة وبلاء) دعوا الله سبحانه، راجعين إليه دون سواه، خاضعين لسلطانه، وتركوا الأصنام مطروحة، فإذا أذاقهم الله رحمته، أي أصابهم أمره بها، والذّوق هنا مستعار لإيصال النعمة والنّجاء من الشّدة، عادوا للشّرك بالله، وعبدوا معه غيره من الأوثان والأصنام. وهذا يقتضي العجب، ويستدعي اللّوم.
ويلحق بهؤلاء الانتهازيين النفعيين بعض المؤمنين، إذا جاءهم فرح بعد شدة، علّقوا ذلك بمخلوق، أو بحذق آرائهم ومهاراتهم، أو بغير ذلك، وهذا شرك مجازا، لأن فيه قلة شكر لله تعالى.
وتكون عاقبة هؤلاء المتناقضين الوقوع في الكفر وجحود فضل الإله وإحسانه، فاستحقّوا التهديد، ويقال لهم: { فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي استمتعوا أيها المشركون بمتاع الدنيا ورخائها، فسوف تعلمون عذابي في الآخرة على كفركم في الدنيا.
بل في الواقع لا دليل على صحة ما أنتم عليه من الضلال، فهل لكم سلطان، أي حجة وبرهان من رسول أو كتاب ونحوه لإقرار ما تفعلون، والنطق والشهادة بما تشركون؟! وهذا استفهام إنكاري معناه: أنه لم يكن شيء من ذلك، فلم ينزل الله كتابا يقرّ الشّرك، ولا أرسل رسولا يدعو إليه، إنما هو اختراع منكم.
وفريق آخر كالمشركين من بعض المؤمنين أو الكافرين، وصفتهم: أنه إذا أنعم الله عليهم نعمة فرحوا بها وبطروا، وإذا أصابتهم شدة وبلاء، أيسوا وقنطوا من رحمة الله. وتعرّضهم للشدة إنما كان بسبب ما اقترفوا من الإثم، وما ارتكبوا من السيئات.
وقوله تعالى: {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} معناه أن الله يمتحن الناس عند ظهور المعاصي، فقد يصاب أحدهم بسوء، ويعفو الله عن كثير.
التّشابه قائم بين حال الفريقين أو الفئتين، المشركون يتعرّضون للرحمة ثم للشّدة، فلهم في الحالة الأولى تضرّع وإنابة، ثم إشراك، ولهم في الحالة الثانية فرح وبطر، ثم قنوط ويأس، وكل إنسان يأخذ من هذا الخلق بقسط، فمنهم المقلّ ومنهم المكثر، إلا من غمر الإيمان قلبه، وتأدّب بأدب الله تعالى، فصبر عند البلاء والضّرّاء، وسكن عند السّراء، ولم يبطر عند النعمة، ولم يقنط عند الابتلاء. والقنوط: اليأس.
ثم ذكر الله تعالى طريق التّخلّص من اليأس من رحمة الله على كل حال، وهو أن يعلم كل إنسان أن الله تعالى يخصّ من شاء من عباده ببسط الرزق، ويحجب أو يقتر الرزق عمن يشاء، للاختبار أو الابتلاء، ان في الحالين حال سعة الرزق وحال تقتير الرزق لأدلة وعلامات على الإيمان الصادق، فالمؤمن الصحيح الإيمان يشكر عند الرخاء، ويصبر عند البلاء، ولا يتغير في الحالين عن الإقبال على ربّه وعبادته بصدق وإخلاص.
الرزق الحلال والرزق الحرام:
الرزق محدود مقنن لكل إنسان في علم الله تعالى، لكن بعض الناس يكون رزقه حلالا طيبا مباركا فيه، ينفق منه على نفسه وأهله وأقاربه والمحتاجين من إخوانه، وبعض الناس الآخرين يكون رزقه حراما آتيا من غير كسب ولا عمل، من الربا أو الفائدة المضمومة إلى القرض، ولكن لا خير فيه ولا بركة، والرازق هو الله تعالى، والبشر وسائط، إما بعملهم وكدّهم وجهدهم، وإما بمساعيهم ووساطتهم، فهم وسائط خير وجسور منفعة، وليس لأحد من غير الله تعالى قدرة على الإطلاق على نفع إنسان أو رزقه، ولا على إلحاق الضر به وحرمانه من الرزق، ومن باب أولى ليس للأصنام والأوثان المتخذة شركاء لله في عقيدة الوثنيين أي دور أو مجال في رزق أحد أو حرمانه منه، قال الله تعالى مبينا هذه الأحوال:


{فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الرّوم: 30/ 38- 40].
إذا كان الرزق مصدره من الله تعالى وحده، وأن الرزق محدود لا يزيد ولا ينقص، فيكون التصرف فيه بحسب مرضاة الله، لذا أمر الله تعالى على جهة الندب بإيتاء ذوي القرابة حقوقهم، من صلة المال وحسن المعاشرة، ولين القول، وإعطاء المساكين المحتاجين وأبناء السبيل، أي المسافرين المنقطعين ما لهم حظ به، لأنهم إخوة إما في الدين وإما في الإنسانية، وذلك الإيتاء أو الإعطاء لهؤلاء القرابة والمحتاجين خير محض في ذاته، ونفع عظيم، لكل من يقصد بعمله وجه الله تعالى، و{وَجْهَ اللَّهِ} هنا: جهة عبادته ورضاه.
وأولئك المعطون شيئا من أموالهم على سبيل البر وصلة الرحم، وإنقاذ النفس الإنسانية من الضرر أو الهلاك: هم لا غيرهم الفائزون ببغيتهم، البالغون لآمالهم، المحققون الخير لأنفسهم في الدنيا والآخرة.
أخرج الترمذي والدارمي في الزكاة عن فاطمة بنت قيس قالت: سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إن في أموالكم حقا سوى الزكاة».
وأما من أعطى عطية، يود الحصول على أكثر منها، من طريق الهدية أو الربا (الفائدة) في التجارات، فلا ثواب له عند الله تعالى، كما جاء في آية أخرى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 74/ 6]. أي لا تعط عطاء تريد أكثر منه، وهذا لا خير فيه ولا ثواب. قال ابن عباس: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى تمويلهم ونفعهم والتفضل عليهم، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم.
وأما العطاء الحسن الذي يحقق الثواب لصاحبه، فهو الزكاة، أي من أعطى صدقة، يقصد بها وجه الله تعالى وحده، بقصد عبادته وإرضائه، أو من أعطى زكاة، تنمية لماله وتطهيرا، يريد بذلك وجه الله تعالى، فذلك هو المحقق للثواب الجزيل، وهو الذي يجازى به صاحبه أضعافا مضاعفة على ما شاء الله تعالى له.
وذلك كما جاء في آية أخرى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 2/ 245] وقال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} [الحديد: 57/ 11].
وكل من الزيادة والنماء داخل في رزق الله المحدد لكل إنسان، لأن الله هو الخالق الرازق الذي يرزق الإنسان من تاريخ ولادته حتى وفاته، ثم يميته بعد حياته، ثم يحييه يوم القيامة للحشر والبعث، هل من آلهتكم أيها المشركون، الذين تعبدونهم من دون الله وجعلتموهم شركاء، من يفعل من ذلك شيئا، أي من الخلق والرزق، والإماتة والإحياء؟! لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، تنزه الله وتقدس، وتعاظم عن أن يكون له شريك أو نظير، أو ولد أو والد، بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد. وهذا تقريع وتوبيخ للكفار المشركين.
إن من يعتقد بأن الله وحده لا شريك له هو ربه وخالقه، وهو معبوده بحق، يتجه إليه وقت الشدة والرخاء وفي كل حال، يحقق له آماله ويرزقه من خيراته ما يشاء.
جزاء المفسدين والصالحين:
لقد تعقدت الحياة، وظهرت فيها ألوان مختلفة من الفساد والأطماع، وتفنن الناس في ابتداع المنكرات وأصناف الأذى والضرر بأنفسهم وبغيرهم، وبقي أهل الإيمان الحق في حصن حصين من الانزلاق والتردي في الضلالات، وأقبلوا على ساحات الرضا الإلهي بدافع من ايمانهم بربهم، وترقبهم مقابلة خالقهم، والاستعداد لعالم الجزاء والحساب الشديد. واقتضى العدل الإلهي أن يجازي الله المفسدين بإفسادهم سوء العاقبة والمصير، وأن يكرم الصالحين المؤمنين بأفضاله ومكارمه، والله في حال العقاب ساخط غاضب، وفي حال الإحسان راض عفوّ كريم، قال الله تعالى مبينا قانون الحساب الإلهي:

1 | 2 | 3 | 4 | 5